الابتلاء عدل من الله في خلقه
يقول الله عز وجل في
الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة".ويعني
هذا الحديث أن الله إذا أخذ من عبد حبيبتيه أو إحدى حبيبتيه -عينيه- فصبر
ولم يسخط على الله فإن جزاءه عند الله الجنة.
إن الهدف من ذكرنا هذا
الحديث هو أن تثق بمنع الله كما تثق بعطائه، متيقنا من أن كلا الأمرين
لحكمة من الله الحكيم الكريم الرحيم، الذي يهون عليك أي شيء تبتلى به
فتنشغل بالرضا والدعاء بأن يرفع الله عنك وأن يعطيك أجرك فيما آلمك.(1)
لله
في الابتلاء حكمه قد تخفى على البعض فلايرى منه سوى المشقة والألم وتغيب
عنه ان للابتلاء ثمار ودروس وجزاء عظيم فالابتلاء ينمي في النفس الرقة
والانكسار والطاعة لله الواحد الأحد واللجوء اليه والاعتماد عليه ولا
يستشعر الانسان هذه المعاني الا اذا شعر بحاجته لله تعالى فقد يلهيه متاع
الدنيا ونعيمها عن ذكر الله واللجوء اليه فتطمئن نفسه الى الدعة والرخاء
فينسى الخالق وينسى الهدف من وجوده على هذه الأرض ووظيفته فيها وهي عبادة
الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 ) ما أريد منهم من رزق
وما أريد أن يطعمون ( 57 ) 57) سورة الذاريات ]الايات:56 و [57
ولا
يشعر الانسان بحاجته لله الا في الشدائد والابتلاءات فمن ابتلي بابتلاء
عليه ان يفر الى الله تعالى بتوجيه القلب والنفس والجوارج الى ما فيه طاعة
الخالق وذكره وحسن الطاعة والعبادة وليعلم ان الابتلاء هو شكل من اشكال عدل
الله في خلقه!
كيف ذاك؟؟ أن الله لا يظلم الناس شيئاً، وأيضاً: " ومَا
رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ". سورة فصلت [الاية:46]إذا اتفقنا على هذه
الحقيقة التي هي من صميم عقيدتنا لننطلق منها وننشغل بالتفكير في حكمة
الله من كل بلاء ليزداد حبنا لربنا بعد بلائه لنا.(2)
قال
ابن عطاء الله في ذلك: "إذا فتح الله لك باب الفهم في المنع أصبح المنع
عين العطاء". وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ما
يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه
خطيئة( وفيه أيضا عن أنس قال: قال رسول الله) :إذا أراد الله بعبده خيرا
عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى
يوافي به يوم القيامة)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن عظم الجزاء
مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا،
ومن سخط فله السخط) .و في صحيح مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، وإن
أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)(3) هل
ادركت عدل الله تعالى حتى في الابتلاء؟؟
فما ابتلى الله عبدا في
الدنيا الا ليدفع عنه ذنبا اعظم في الآخرة حتى يبعث فيلقى الله تعالى وما
عليه من خطيئه فينقى من الذنوب كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، فحتى
الشوكة يشاكها يجازى عليها ثواباً فتحط الخطايا وترفع الدرجات ومفتاح ذلك
كلمة واحدة الصبر!
حظوظ الدنيا موزعة ابتلاء للناس واختبارا
لصبرهم وجزائهم بقدر صبرهم هناك غني وفقير، وقوي وضعيف، وحاكم ومحكوم،
وظالم ومظلوم، ومُستًغِل ومُستَغَل، وإنسان وسيم الصورة وإنسان دميم،
وإنسان عمره طويل وإنسان عمره قصير، وإنسان ذكي ألمعي وإنسان محدود، الله
عز وجل وزع هذه الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء.
﴿ انظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً(21)) سورة الاسراء الآية:21
لكن هذه الحظوظ سوف توزع في الآخرة توزيع جزاء، وشتان بين توزيع الابتلاء وتوزيع الجزاء، توزيع الابتلاء موقت، سنوات تمضي.
إنسان امتحن بالفقر فنجح، صبر، وتجمل، وكان عفيفاً، فاستحق الجنة إلى الأبد.
امرأة
ليست بارعة الجمال، وأخرى جمالها دون الوسط، لم يتح لها الزواج، بقيت
عانساً، لكنها صامت شهرها، وصلت خمسها، وأطاعت أهلها، وخدمت أباها وأمها ،
وماتت هكذا، لها جنة إلى أبد الآبدين، والتي كانت بارعة الجمال، وفسقت
بجمالها، وانحرفت تموت، وينتهي هذا الجمال، فالموت ينهي كل شيء، الموت ينهي
قوة القوي، وضعف الضعيف، ينهي غنى الغني، وفقر الفقير، وينهي وسامة
الوسيم، ودمامة الدميم، ينهي ذكاء الذكي، ومحدودية المحدود، ينهي كل شيء،
ويبقى الجزاء.(4)
مواقف الناس في الصبر على الابتلاء
لا
يريد الله منك ايها العبد سوى الاخلاص في النية والعبادة الشكر على النعمة
والصبر على الابتلاء لكن ما مراتب الناس في الصبر على الابتلاء؟؟
1-
يختلف المؤمن في موقفه من المقدور عن سائر البريّات ، فهو يعلم أنّ ما
أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبة ، و هذا ما يحدوه لتسليم
أمره ، و زمام قياده إلى ربّه الرؤوف الرحيم ، الذي وعد المؤمنين و
المؤمنات بالتثبيت عند الشدائد و الملمّات .(5)
(يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ
فِي الآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا
يَشَاءُ) [ إبراهيم : 27 ] .
و المؤمن باحتسابه الأجر فيما يلحقه من
لأواء ، موعود بجزيل الأجر ، و عظم الجزاء ، و لذلك يتلقاه بتثبيت الله
تعالى له ، راضياً مطمئناً ، و إن لم يكن يتمناه .
يقول مسروق الوادعي
رحمه الله ( إن أهل البلاء في الدنيا إذا لبثوا على بلائهم في الآخرة إن
أحدهم ليتمنى أن جلده كان قرض بالمقاريض) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب
التميمي ، ص : 283 ] .
2- هناك صنف آخر من البشر لا يلوح له البلاء إلا و
تنهار قواه ، و يهتز كيانه ، و لا يلبث أن يسقط في ما يعترض سبيله من فتن ،
و هذا شأن المنافقين ، و من قالوا آمنّا بألسنتهم و لم يدخل الإيمان في
قلوبهم .
فهم كخُشبٍ مسنّدةٍ ، لا حياة فيها و لا إيمان يقويها .
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء!
إنما المَيْتُ من يعيش كئيبـاً كاسِفاً بالَهُ قليلَ الرجـاء !
وكأن هؤلاء لم يستمعوا إلى قوله تعالى
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وَ
مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي
اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)[ العنكبوت : 10 ] .
قال
الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله مفسراً هذه
الآية الكريمة : ( يعني أن من الناس من يقول : آمنا بلسانه فإذا أوذي في
الله أي آذاه الكفار إيذائهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين
إلى الردة ، و العياذ بالله ، كعذاب الله فإنَّه صارفرادع عن الكفر و
المعاصي ، و معنى فتنةَ الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، و
إيذاءالكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ) [ أضواء البيان :
6/462 ] .
فهو يعبد الله على حرف قال تعالى : (وَ مِنَ النَّاسِ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)
(الحج: 11)
إن
اصابته نعمة اطمأن واستكان لها ورضي وشكر وإن اصابته ابتلاء فقد ايمانه
بسرعه وترك الطاعة وانقلب على نعم الله عليه وسخط وتبرم واشتكى مابه حتى ان
بعضهم ان اصابته المصيبة توجه لله بالدعاء حتى اذا طال عليه الأمد يئس من
رحمه الله فترك الطاعة فهؤلاء خسروا دينهم ودنياهم.
همسة أخيرة:
وإذا عرتـــك بلية فاصبر لها *** صـبر الكــريم فإنه بك أعلمُ
وإذا شكــوت إلى ابن آدم إنما ***تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
و
لعلّ من المناسب في ختام هذا الكلمات التذكير بقول عمر بن عبد العزيز رحمه
الله ( ما أغبط أحداًلم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي
العرب التميمي ، ص : 283 ] .