سابحة لربها Admin
عدد المساهمات : 1084 تاريخ التسجيل : 14/06/2012 العمر : 64
| موضوع: المسلمات في المؤلَّفات التاريخية الخميس ديسمبر 27, 2012 9:29 pm | |
|
فاطمة حافظ: كثيرا ما نطالع في الأدبيات النسوية المعاصرة- المعنية بتاريخ المرأة المسلمة- أن مصادر التراث التاريخي الإسلامي أغفلت إسهامات النساء وأقصتهن من التاريخ، وهي وإن كانت لا تشير إلى كون ذلك تم عمداً أو عن دون وعي إلا أنها تشي بأن المجتمع الإسلامي كان مستبطناً روح التنازع والتنافس بين المرأة والرجل أو كانت تحكمه نزعة ذكورية؛ الأمر الذي استدعى إقصاء النساء من المؤلفات التاريخية، فما دقة هذا الافتراض أو بالأحرى الادعاء، وهل تحيز المؤرخون المسلمون بالفعل ضد المرأة والفئات المهمشة في المجتمع وانحصر جهدهم في التدوين لأرباب السلطة السياسية.التحقق من مصداقية هذا الادعاء وغيره يجعل هنالك ضرورة في التعرف على الإطار المرجعي الذي أسهم في تشكيل رؤية المؤرخين المسلمين للتاريخ، والوقوف على الضوابط المنهجية التي حكمت عملية التدوين التاريخي الإسلامي، ودفعت لكتابته على النحو الذي عرف به. ولا تقتصر تلك الضرورة عند حدود التثبت من صحة هذا الافتراض أو ذاك، وإنما تمتد إلى تسليط الضوء على المنطلقات التي حكمت التصورات الذهنية وسيرت الحوادث في العصور الإسلامية، وذلك حتى يمكن التعرف على مواقع فاعلية المرأة المسلمة، وبيان الوزن النسبي لهذا الحضور في إطار تاريخ الأمة، وأيضا معرفة الضوابط التي حكمت حركة المرأة على مسرح التاريخ العربي، وجعلت المؤرخ المسلم يتحرج في ذكر مواضع معينة من هذا التاريخ، ودون الرجوع إلى هذا الإطار الكلي سيبدو تناول تاريخ المرأة المسلمة بمثابة اقتطاع ظاهرة تاريخية وتناول لتاريخ فئة اجتماعية محددة بمعزل عن السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المتشابكة معها، وهو ما يكرس الرؤية التجزيئية للتاريخ الإسلامي وينفي وحدته العضوية الكاملة.في تعريف علم التاريخ يذهب ابن خلدون في مقدمته التي تعد أول محاولة عملية لاستخلاص القواعد الكلية والسنن التي تسير العملية التاريخية إلى أن التاريخ "في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا في الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"[1] وحسب هذا التعريف توصل ابن خلدون إلى أن جوهر العملية التاريخية هو التحقق من الحدث التاريخي، والبحث عن أسباب وقوعه وإدراك العلاقة السببية بينه وبين الحوادث الأخرى، وخلص إلى أن التاريخ "أصيل في الحكمة وعريق"، ولما كانت الحكمة في لغة العرب هي أسمى مراتب المعرفة فإنه يكون قد فهم التاريخ باعتباره علما ضروريا لفهم ومعرفة الإنسان من خلال تاريخه، ومعرفته بذاته كفيلة لأن تدله على خالقه.في حين ذهب مؤرخ آخر هو شمس الدين السخاوي في كتابه "الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" إلى كون التاريخ "في الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة وعقل وبدن وحج وحفظ وضبط وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم" أي إن وظيفة علم التاريخ-كما يراها- السخاوي ترتكز فقط حول تتبع سير الأئمة والرواة، ومعرفة المواقيت لإقامة الشعائر[2]. وإذا ما تتبعنا التعريفات التي ساقها المؤرخون المسلمون للتاريخ في مقدمات كتبهم لاكتشفنا أنها تقترب من تعريف ابن خلدون أو السخاوي بشكل أو بآخر، وهو ما انعكس على منهاجية التدوين التاريخي آنذاك؛ فهناك من سار على درب السخاوي وقصر التاريخ على تناول سير العلماء والرواة والمحدثين كابن حجر العسقلاني، في مقابل من اقتفى نهج ابن خلدون واجتهد في وضع الأسس المنهجية التي أرساها موضع التطبيق كالمقريزي.خصائص الرؤية التوحيدية للتاريخ
- فاعلية العنصر البشري (الاستخلاف).وعلى الرغم من أن المؤرخين المسلمين قد اختلفوا في تعريف التاريخ؛ فإنهم جميعا تأثروا بفكرة التاريخ كما وردت في القرآن الكريم، والتي تذهب إلى أن جوهر العملية التاريخية يستند إلى مفهوم الاستخلاف، وبمقتضاه يصبح الإنسان صانعا للفعل التاريخي بحكم الأمانة الملقاة على عاتقه في إعمار الأرض وتشييد الحضارة؛ وهو ما يعني أن خيارات البشر وفعالهم تلعب دورها في تسيير مجرى الحوادث التاريخية وتصبح الإرادة البشرية "محرك الفعل التاريخي". ووفقا للرؤية التوحيدية فإن فاعلية الإنسان ودور خياراته في تحديد مصير البشرية ثابت ومؤكد، ولكنه لا يتنافى مع أن حركة التاريخ محددة ومؤطرة بسنن وقوانين إلهية تضبط مسارها وتحدد إطارها فلا تسير بشكل عشوائي واعتباطي. وهذا التشابك بين الفاعلية البشرية المنضبطة سلفا بالسنن والإرادة الإلهية هو ما عبر عنه أحد الباحثين بقوله "إن التاريخ البشري هو تحقيق المشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر من الله، وبحسب سنن معينة يجري بها قدره في الحياة الدنيا" ([3]).والتاريخ بهذه الصفة لا يمكن أن يكون مقدساً كما ذهب إلى ذلك الفكر المسيحي في عصوره الوسيطة فقد نظّر القديس أوغسطين في كتابه "مدينة الله" لفلسفة التاريخ المسيحية حين صور العالم وتاريخه باعتباره التجلي والإظهار لإرادة الرب، والعملية التاريخية وفق هذا المفهوم ليست سوى المظهر الفعلي للصراع بين الرب وقوى الشر أو هي صراع بين "مدينة الرب" و"مدينة الشيطان"، وقد ألقت رؤية القديس أوغسطين للتاريخ بظلالها على منهاجية التدوين التاريخي؛ فالمؤرخون المسيحيون كتبوا التاريخ كما ينبغي أن يكون وليس كما حدث بالفعل باعتباره مقدساً، وعجزت مدوناتهم التاريخية عن إدراك دور الإنسان كفاعل في صناعة الحدث التاريخي ([4]).- أخلاقية الفعل التاريخيإذا كان التوكيد على فاعلية العنصر البشري أحد أبرز خصائص المنظور التوحيدي فإنه يتسم أيضا بإبرازه المكون الأخلاقي للحدث التاريخي؛ ففي مواضع كثيرة يؤكد القرآن على الغاية الأخلاقية للعملية التاريخية وهو ما تجسده خواتيم القصص القرآني التي تنص على أن غايتها النهائية العظة والعبرة والتدبر، فتتلافى الأجيال اللاحقة مآل ومصير الأمم السابقة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)[5]، (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)[6].وعلاوة على ذبك يؤكد القرآن على التلازم العضوي بين المبدأ الأخلاقي والفعل التاريخي الناجح، فإذا انتفى المبدأ الأخلاقي لم يكتب للفعل التاريخي النجاح والاستمرارية حتى وإن كان مؤيدا بالقوة المادية (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا مما أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)[7] والقرآن هنا يؤكد على القوة الذاتية للحق وحتمية الإخفاق الذي ينتظر الباطل[8].والغاية الأخلاقية للقصص القرآني تتنافى مع فكرة عبثية التاريخ والنزعة التشاؤمية التي روج لها بوركهارت، وشبنجلر وتوينبي، ويعبر نيتشة بوضوح عن العبثية واللاجدوى اللتين تسمان حركية التاريخ المستندة إلى قانون "التواتر اللانهائي"، وبموجبه فإن كل الأحداث تتكرر إلى ما لا نهاية، لا خطة ولا هدف ليعطي معنى للحياة أو للتاريخ، ويصف نيتشة التواتر النهائي بأنه خلاصة "حكاية يرويها أبله، مليئة بالصوت والغضب لا تدل على شيء"([9])وإذا كان التاريخ وفق المنظور النيتشوي تسيره العبثية نحو اللاهدف والتشاؤمية فإن المنظور التوحيدي يؤكد في المقابل أن التاريخ تحكمه نزعة تحسينية واضحة، فمتى تزايد الامتثال لأوامر الله والابتعاد عن نواهيه ازدادت أحوال البشرية تحسناً ([10]) وهو ما يؤكده القصص القرآني بأن اتجاه التاريخ يجري باستمرار نحو الحق والخير، وما الفترات التي يعلو فيها الباطل إلا جولة قصيرة في النزال الأبدي بين الحق والباطل وفي هذا توكيد على النزعة التفاؤلية النهائية التي يستمد منها المؤمنون أسباب الاطمئنان إلى مستقبل البشرية. - محورية الدينسمة أخرى تسم المنظور التوحيدي وتمنحه تفرده وتميزه وهي أنه يعد الدين لا السياسة محورا ومدارا لحركة التاريخ، وهو ما يعني أمرين: الأول استمرارية التاريخ، تلك الاستمرارية المستمدة من أبدية الدين وخلوده، وتلاحمه الوثيق مع الوجود الإنساني على سطح الأرض، وهذه الصورة تغاير ما ذهب إليه المفكرون الغربيون من أن التاريخ يمكن أن يصل إلى منتهاه، ومن ثم يسدل الستار على الحضارة.والثاني تجفيف فكرة البطولة الأحادية، ونزع القداسة عن البطل الفردي ودوره المبالغ فيه(*) وهو ما يعني إفساح المجال لأن يكون التاريخ من صنع الجماعة، ذلك أن الدين في جوهره فكرة جماعية لا يمكن قط أن تترجم وتتخذ أبعادها إلا من خلال تمثلها من قبل جماعة ما، والأديان جميعها تحققت بمؤازرة المؤمنين لأنبياء الله الذين بشروا بها. وقد انعكست تلك الحقيقة في رؤية المؤرخين المسلمين لتاريخهم حين عدوه تاريخا للأمة بأسرها، ومن هنا ظهرت كتب الطبقات على نحو ليس له نظير في تاريخ الأمم الأخرى، فهناك طبقات الفقهاء للشيرازي، وهناك طبقات الصوفية للسلمي، وطبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي، وغيرها مما يضيق المقام عن حصره في هذا الموضع.ونشير هنا إلى أن التدوين التاريخي للفئات الاجتماعية البعيدة عن السلطة كان يتم في إطار تلك الدائرة، ومن خلالها نكتشف مدى الفاعلية التي اتسمت بها هذه الفئات ومقدار تفاعلها مع قضايا الأمة، وضمن تلك الدائرة تم رصد أدوار النساء في الحياة الاجتماعية والثقافية، واتساع رقعة المساحة المخصصة للمرأة تدفعنا للتشكيك في صحة الادعاء الخاص بوجود تهميش عمدي لدور المرأة في المدونات التاريخية؛ إذ لو كان الادعاء صحيحا لتم إقصاؤها من كتب الطبقات أيضاً. وتشكل كتب الطبقات والتراجم المحصول الأوفر في المكتبة التاريخية حتى تكاد تغطي نسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة ([11]) ولكن ذلك لا يعني أن التاريخ الإسلامي لم يعرف السير التي ترتكز حول البطل الفرد، ولكن ما نلحظه هو محدوديتها النسبية، وأن ظهورها جاء متأخراً مع الحروب الصليبية، حين اهتم المؤرخون "بالسير الملكية" لزعماء الجهاد الإسلامي وبخاصة صلاح الدين الأيوبي، في حين أفرز المخيال الشعبي ما يوازيها من "السير الشعبية"، والبطل في السيرة الشعبية تشكيل نموذجي يجمع في تكوينه الفرد والمجتمع، بل يجمع في تكوينه الرؤية الجماعية المثالية للتاريخ كما ينبغي أن يكون، ومن خلال هذه الرؤية يتأكد لدينا الإحساس بالرفض العميق للواقع التاريخي المعاش. وإذا كان المنظور التوحيدي يدور حول مفهوم الأمة فهذا لا يعني أنه أضحى موازيا لمفهوم "شعب الله المختار" حين تصور اليهود أنهم يحتلون موقع القلب والمركز من التاريخ وما دونهم من الأمم تقبع في هامش التاريخ، وتجد تلك الفكرة صداها الآن لدى بعض المفكرين الغربيين حينما يتحدثون عن تفوق الجنس الأبيض، وأنه مؤهل بحكم البيولوجيا لحمل شعلة الحضارة. أما الأمة في المنظور التوحيدي فهي ليست مفهوما ضيقا جغرافيا كان أم عرقيا أم عنصريا، لكنه مفهوم إيماني متسع وممتد يشمل بأواصر القربى كل المؤمنين والموحدين بالله منذ بدء الخليقة حتى يوم القيامة.وفي كتابات المؤرخين المسلمين لا نلمح ذلك التضخيم المفرط للذات، بل كثيرا ما مارسوا النقد بحق المجتمع، وبحق السلطة السياسية حين يستدعي الأمر هذا النقد، ولا نلمح كذلك التحامل الفكري ضد الآخر أو تهميشه ونفيه أو الطعن في عقيدته، حتى إن المؤرخين أطلقوا على الغزاة الأجانب الذين جاءوا لاستلاب أراضيهم لقب (الفرنجة) وهي تسمية لا تحمل بين طياتها بعدا عنصريا أو تجريحا في عقيدة، في حين أطلق الآخر على المسلمين (هراطقة) التي تحمل طعنا عقائديا واضحاً، وفوق ذلك سجل نفر من المؤرخين إعجابه ببعض خصال الفرنجة، كما أثنى ابن الأثير على شجاعة امرأة صليبية استبسلت في الدفاع عن مستعمرتها، في مواجهة المسلمين.وبعد أن تناولنا بنوع من الإجمال بعض قسمات المنظور التوحيدي للتاريخ، ننتقل من العام إلى الخاص ونتناول بعض المحددات المنهاجية والضوابط التي حكمت عملية تدوين تاريخ المرأة.المحددات المنهاجية للكتابة عن المرأة تأثرتمنهاجية الكتابة التاريخية بالوحي الغيبي باعتباره المصدر التأسيسي لمنهاجية العلوم الإسلامية ككل، فقد استبطن المؤرخ المسلم نهج التعامل القرآني مع المرأة، وأبرز خصائصه الإقرار بحقيقة وجود تباين بين النساء من حيث الإقبال على الهدى أو الإعراض عنه، وما استرعى انتباهه أن القرآن في تعامله مع النساء تخير في مواضع التركيز والمشاهد التفصيلية أن تكون بطلة هذا الموقف امرأة مؤمنة ومقبلة على الله، لقد صاغ القرآن في مشاهد بالغة العذوبة تبتل امرأة عمران ونذرها وليدها لله، واستغاثة امرأة فرعون بالله أن ينجيها، في حين لا نجد مثيلا لتلك المواقف التفصيلية لنساء لم يعرفن طريقهن إلى الله ممن يأتي ذكرهن في معرض الإخبار غير التفصيلي([12]) وتلك خصيصة اختص بها الذكر الحكيم النساء دون الرجال فقد سلط القرآن الضوء في مشاهد حية ومؤثرة ملامح بعض العتاة والمتجبرين أمثال فرعون وقارون.اقتفى المؤرخ ذلك النهج في التعاطي مع المرأة، واستخلص منه قاعدة منهاجية حكمت عملية التدوين التاريخي، فتخير من بين النماذج النسائية المتباينة ذوات الإيمان والصلاح أو المتفقهات في الدين، أو من شاركن بأموالهن في خدمة الأمة بوقف أو خلافه، وهؤلاء أفرد لهن مساحة وافرة في كتب التراجم والطبقات.في حين تعامل مع اللواتي حدن عن المنهاج القويم بقدر وافر من الاحتراز، فتعرض لهن في إشارات إجمالية مقتضبة، وأغفل عمدا عن تقديم أية إيضاحات تتعلق بهذه الشخصية حتى إنه أحجم عن ذكر أسمائهن ([13])، وعلى سبيل المثال لا نجد ذكرا في المدونات التاريخية لأي امرأة احترفت العمل كضامنة مغاني(*) أو اتصلت بمجالي اللهو والغناء. وهنا يبدو أن المؤرخ لم يسقط في فخ رصد الإيجابيات وإغفال السلبيات المجتمعية، وإنما تعامل مع التاريخ باعتباره واقعا بشريا وليس مقدساً، وفي ذات الوقت فإنه يكون قد ألح على إبراز المكون الأخلاقي باعتباره غاية العملية التاريخية كما ورد في النص القرآني.المرأة في الخطاب القرآني على جانب آخر تأثرت منهاجية التدوين التاريخي بأسلوب الخطاب القرآني الذي ينقسم من منظور التخصيص والتعميم النوعي إلى قسمين: خطاب عام يندرج تحته غالب الخطاب القرآني وهو الذي يبدؤه البارئ بقوله "يا أيها الناس" أو "يا أيها الذين آمنوا"، أما الخطاب النوعي فيعد استثناء في القرآن ويأتي في معرض التصدي لقضايا نوعية بعينها، ومنه قوله تعالى "يا نساء النبي" ([14]) وترجع أسباب غلبة الخطاب العام إلى أن القرآن لا يصنف المجتمع على أساس التمييز النوعي بل على أساس الموقف العقدي ([15]).وقد ألقى الخطاب القرآني بظلاله على أساليب الكتابة التاريخية، فالمؤرخ استخدم صيغة الخطاب العام "مسلمين" في الإشارة إلى الجماعة المؤمنة إجمالا ودون تخصيص، وحين نطالع النص التاريخي يجب أن نكون مسلحين بهذا الفهم، فلا نقف أمام ظاهر الخطاب ونظن أن النساء استبعدن من التاريخ، فقد سجلت مساهمتهن تحت صيغة الخطاب "مسلمين" ولم يكن منتظرا من جميع المؤرخين أن يفصل من المعنّي بالمسلمين على وجه التحديد الرجال أم النساء، ذلك أن عملية التدوين تمت على مستوى الجماعة العام لا على مستوى التخصيص النوعي، ولنعط مثالين يؤكدان ما نذهب إليه:الأول: يتعلق بواقعة حصار المسلمين حصن أرسوف الصليبي (663هـ) ففي حين يتناولها المؤرخ بدر الدين العيني إجمالا ويصف المشاركين فيها بأنهم مسلمون قائلا "وما أحس الفرنج إلا وقد خالطهم المسلمون" ([16]) أما حين تناولها المؤرخ المقريزي فقد فصل أصناف "المسلمين" المشاركين فيها على النحو التالي "وحضر في هذه الغزاة جمع كبير من العباد والزهاد والفقهاء وأصناف الناس... بل كانت النساء الصالحات يسقين الماء ويعملن في جر المجانيق"([17]).والثاني: يتعلق بواقعة استيلاء ملك قبرص الصليبي على مدينة الإسكندرية (767هـ) وقد تعرض المقريزي للواقعة وأطلق على المشاركين فيها "المسلمون" وفي مواضع أخرى "أهل الثغر"، أما حين تناولها النويري وهو أحد شهود العيان، وأفرد مؤلفا خاصا تناول بشاعة الاستيلاء فقد فصل فيما أجمل فيه المقريزي، فيكشف عن خروج العربان والنساء وحتى الأطفال- الصبيان كما أطلق عليهم- للدفاع عن مدينتهم قائلا: "وكانت النسوان ينظرن إلى مراكب الفرنج من رؤوس الكيمان... فزغردت النسوان لتلك العربان، وقلن قد أتت الشجعان، يقتلون عباد الصلبان"[18].القاعدة العامة التي نستخلصها هي أن استخدام المؤرخ أسلوب الخطاب العام (غير النوعي) لا يعني غياب المرأة أو تغييبها، والإعلان عن مشاركتها أو عدمه راجع إلى الإجمال أو التفصيل في سرد الوقائع التاريخية، أو أن المؤرخ ارتأى أن تواجدها أمر بدهي ومألوف؛ فلم يشأ أن يفصل فيما هو معروف وبغير حاجة إلى تأكيد، وعلى أية حال كلما كان المؤرخ معنيا بواقعة محددة أو تاريخ مدينة بعينها كان أكثر تركيزاً وأقدر على منح القارئ تفصيلات وافية، وعندئذ نلمس حضورا وفاعلية للمرأة لم تكن على ذات الوضوح في كتب التاريخ العامة، وهو ما يستدعي من الباحثين بذل الجهد من أجل تتبع الواقعة أو الحدث في المؤلفات التاريخية المختلفة، في سبيل استقصاء مواضع تلاحم المرأة مع قضايا أمتها، وإبراز هذا التلاحم واستلهامه في الواقع. | |
|