الحلقة السابعة
تابع الإعجاز التشريعي في القرءان الكريم
والتي كانت بتاريخ
15 – 7 – 2007
نحن الليلة علي موعد مع اللقاء السابع من لقاءات التفسير لكتاب ربنا القدير
ولا زلنا بفضل الله في حديثنا عن الإعجاز التشريعي في القرءان الكريم
ثانيا أصول التشريع القرءاني
* إقرار عقيدة التوحيد والرد علي المناهج الخاطئة الجاهلة القاصرة في رؤيتها لحقيقة الألوهية
كل
تشريع جاء به نبي أو رسول فأول هدف من أهدافه أن يقرر عقيدة التوحيد ،
فأول هدف لتشريع القرءان الكريم أن يُفرد الخلقُ الحقَ وحده جل وعلا
بالعبادة وأن يطهر عقيدة التوحيد مما علق بها من الشرك ومن جاهلية ووثنية
وأن يرد علي هذه المناهج المنحرفة التي منها من اتخذ الشمس إله من دون الله
جل وعلا ، فنزل التشريع القرءاني ليصحح الخطأ ويحق الحق بعد هذا الباطل ،
فقال ربنا جل وعلا حكاية عن نبي الله سليمان في حواره البديع مع هذا الهدهد
الموحد الذي تألم للتوحيد الذي دنس جنابه كثيرا من الناس ، وتركوا هذه
الحقيقة الناصعة كالشمس في ضحاها والنهار إذا جلَّها وراحوا يسجدون لمخلوق
من مخلوقات الله جل وعلا ، قال تعالي ( وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ
الْغَائِبِينَ . لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ
أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ .
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) (النمل 20 : 24 ) ، وأعلن الهدهد غضبه لله جل وعلا وعن غيرته علي عقيدة التوحيد التي دنسها كثيرا من الخلق فيقول ( أَلا
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ . اللَّهُ لا إِلَهَ
إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل : 25 ، 26)
سبحان
الله هل رأيتم طريقة القرءان في عرض قضية التوحيد والقضاء علي هذا المعتقد
الفاسد القاصر المعتقد الذي جعل قوما يسجدون للشمس من دون الله وهي مخلوقة
من مخلوقات الخالق تبارك وتعالي قال الله ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )(فصلت:
37) ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه يا أبا ذر
أتدري أين تذهب الشمس حين تغرب ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال إنها تذهب
لتسجد تحت العرش ( إلي آخر الحديث ) ،، ولا تسأل عن الكيفية لأن كل شيء في
الكون يسجد لله بكيفية لا يعلمها إلا هو جل جلاله قال تعالي ( أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) (الحج:18) ، لقد خلق الله للمخلوقات إدراكا أدركت به هذه المخلوقات حجم الأمانة التي كُلفت بحملها قال تعالي ( إِنَّا
عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (الأحزاب:72)
، فأشفقت لحملها إجلالا لمن عرض وتقديرا له جل وعلا ، وتقدم لها الإنسان
القصير العمر الضعيف الطَّول والحول ليحمل هذه الأمانة فمن أداها فهو
الأمين ومن خانها فهو الظلوم الجهول ، نسأل الله أن يجعلنا أهلا لهذه
الأمانة
وهذه طائفة أخري يتحدث عنها القرءان ممن عبدت المخلوقات من دون الله ( وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأى
الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأى
الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام 75 : 78 )
لكن لحظه :
إبراهيم
ما شك أبدا إياك أن تظن هذا ، قال الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم (
نحن أولي بالشك من إبراهيم ) ، ولكنه يقيم الحجة بأسلوب مقنع بديع علي قومه
الذين اتخذوا القمر والكواكب آلهة من دون الله ، فأراد بهذه المناظرة
والمحاورة البديعة أن يثبت لهم أن هذه المخلوقات إنما هي من خلق الله جل
وعلا الذي يجب أن تُصرف العبادة له وحده سبحانه وتعالي
وعبدوا أيضا الأصنام سبحان الله كيف يصنعون إلاههم من حجر ثم يسجدون له ويركعون ( إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ
لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ) (الأنبياء 52 :53 )
بل
ومن هذه الأفكار المنحرفة من عبدوا العجل قديما في بني إسرائيل بل ولا
زالت تُعبد البقرة إلي عصرنا هذا في عصر التقدم والتكنولوجيا قال تعالي ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) (البقرة:92) ، وقال في السامري ( فَأَخْرَجَ
لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ
مُوسَى فَنَسِيَ . أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ) (طه 88 : 89 )
ومن الناس من عبد البشر ( وَقَالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (التوبة)
ونود
أن نؤكد علي أن العبادة لو وقعت علي رجل صالح كنبي أو ولي فإنما تقع
العبادة علي الشيطان لأن هذا النبي متبرأ ممن عبده من دون الله جل و علا
قال تعالي ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ
عَلامُ الْغُيُوبِ ) (المائدة:116)
وذكر القرءان لكل ذلك ليس إلا تأكيدا علي التوحيد، فالتوحيد لا يُنتقل منه إلي غيره بل يُنتقل معه إلي غيره
لأن
الحياة كلها تبدو تافهة القيمة مبتورة الهدف معدومة النفع إن لم تكن
مرتبطة بمُنشئها الأول وإن لم تكن من أجل قدوسها الأجل الأعظم
ولازلنا نقول أن أعظم كتاب للتوحيد هو كتاب ربنا جل وعلا
أقرؤا معنا قول الله تعالي ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْيَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )( الإخلاص ) ففيها من تقرير عقيدة التوحيد ما فيها
وكل شيء في الكون يدل علي أن الله عز وجل هو الخالق والمالك والمدبر لهذا الكون
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو تري عيناك
الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرا لها أعياك
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا داعيا شفي الأمراض من أرداك
قل للمريض نجي وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك
قل للصحيح مات لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك
بل سائل الأعمى خطي وسط الزحام بلا اصطدام من يا أعمي يقود خطاك
بل سائل البصير كان يحذر حفرة فهوي بها من ذا الذي أهواك
وسل الجنين يعيش معزولا بلا راعٍ ومرعي من ذا الذي يرعاك
وسل الوليد بكي وأجهش في البكاء لدي الولادة ما الذي أبكاك
وإذ تري الثعبان ينفث سمه فسأله من يا ثعبان بالسموم حشاك
وأسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك
وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا وقل للشهد من حلاك
بل سائل اللبن المصفى من بين فرث ودم من ذا الذي صفاك
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فسأله من يا نخل شق نواك
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فسأله من أسراك
وإذ تري الجبل الأشم مناطحا قمم السحاب فسأله من أرساك
لله في الآفاق آيات لعل ما أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو تري عيناك
فصيحة كل رسالة ودعوة كل نبوة هي التوحيد
نوح عليه السلام دعي إلي التوحيد ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) (نوح 1 : 3 ) فأول أمر بدأ به هو التوحيد
وقال تعالي ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )( الأعراف:85)
وقال تعالي ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) (الأعراف:65)
وقال تعالي ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )(هود: 61)
وننتقل سريعا دون فصل للأصل الثاني وهو
* تصحيح العبادة
لأنه لا
فصل بين هذا الأصل والأصل السابق فبعد أن أقر القرءان عقيدة التوحيد ورد
علي المناهج الباطلة ، جاء مباشرة الأصل الثاني وهو تصحيح العبادة إذ أنه
لا يستحق العبادة سوي الله ، قال تعالي ( ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (الحج:62) ، وقال تعالي ( وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الأسْبَابُ ) (البقرة : 165 ، 166) ،
قال شيخ الإسلام بن تيمية في تفسير الآية : أي والذين آمنوا أشد حبا لله من
حب أهل الأنداد لأندادهم ، نعم فالمؤمن قلبه مليء بالحب لله والخضوع
والإذعان لله والرضي بالله وهذا هو أصل العبودية ، فمن عبد الله بالحب دون
أن يخضع فليس عابدا ، ومن عبد الله بالذل وليس محبا له فليس أيضا عابدا ،
لكن العبادة متضمنة للمعنيين معا وكلما زاد العبد حبا لله زاد استسلاما
وإذعانا وخوفا وكلما ازداد القلب خوفا من الله ازداد بذلك حبا لله وتعلقا
به سبحانه وتعالي ، وعلي قدر حبك يكون خوفك وعلا قدر خوفك يكون حبك
ورد
في سنن الترمزي والبيهقي بسند حسن من حديث أبي هريرة : أنه دخل عدي بن
حاتم علي النبي يوما ( وكان عدي نصرانيا وأسلم ) فقرأ عليه النبي قول الله (
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
)(التوبة: 31) ، فقال عدي لا يا رسول الله ما عبدوهم فقال صلي الله عليه
وسلم : ألم يحلوا لهم الحرام ويحرموا عليهم الحلال فأتبعوهم ؟ قال عدي :
بلي ، قال النبي فتلك عبادتهم إياهم
قال تعالي ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى )(البقرة: 256)
قال بن عباس رضي الله عنه : الطاغوت أي الشيطان ، فالطاغوت صيغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في كل شيء
وعرفه عمر رضي الله عنه أيضا بقوله : الطاغوت هو الشيطان
وعرفه الإمام مالك إمام دار الهجرة : الطاغوت هو كل ما عُبد من دون الله
وحده الإمام بن القيم حدا جامعا فقال : الطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع
لا
إله إلا الله : نفي وإثبات أي لا معبود بحق سوي الله ، فالنفي المحض ليس
توحيدا وكذلك الإثبات المحض بدون النفي ليس توحيدا بل يجب أن يكون التوحيد
متضمنا للنفي والإثبات معا ، وقد قدم الله في الآية الكفر بالطاغوت علي
الإيمان بالله إذ لابد من التخلية قبل التحلية ، فلا يستقر الإيمان بالله
والطاغوت في قلب واحد بل لابد أن يطرد أحدهما الآخر ، فإن استقر الإيمان في
القلب وأشرق نوره فيه خلي هذا القلب من الشرك والشك والغل والحسد والعجب
والكبر وصار صاحب هذا القلب يحمل قلبا سليما عليه مدار السعادة في الدنيا
والآخرة ، قال تعالي ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ( الشعراء 88 :89 )
وهذا
الأصل الثاني الذي نتحدث عنه الآن ألا وهو العبادة هو الغاية التي خلق
الله من أجلها الخلق وخلق الجنة والنار وأنزل الكتب وأرسل الرسل من أجل أن
يُفرد الخلق الحق جل وعلا بالعبادة قال تعالي ( وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذاريات 56 :58 )
قال بن القيم رحمة الله
والشرك فأحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان
قال تعالي ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
)(النساء: 48) ويجب أن نعلم أن الذي لا يغفر له الله هو من عاش علي الشرك
والكفر ومات عليه أما من خلع رداء الشرك علي عتبة التوحيد والإيمان فهذا
يقبل الله توبته بإذن الله
وفي
صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحبيب النبي صلي
الله عليه وسلم قال : من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار
وأيضا
هناك طائفة أخري توحد الله جل وعلا وتفرده بالعبادة لكن علي غير هدي رسول
الله وهذا هو الإبتداع الذي يُحبط العمل ، لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا
ما كان خالصا لوجهه جل وعلا وموافقا لهدي نبيه صلي الله عليه وسلم ، قال
تعالي ( فمنكَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )(الكهف: 110)
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، أي مردود عليه
فوحد
الله وأجعل عبادتك كلها من حب وبغض وتوكل وولاء وبراء واستعانة واستغاثة
وذبح ونذر وطواف وحلف إلي غير ذلك من الأعمال الظاهرة والباطنة اجعل كل ذلك
لله جل وعلا ، كما قال لحبيبه المصطفي صلي الله عليه وسلم ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام:162)، ويجب أن تعلم أن العيش في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله ، فالحياة في سبيل الله تحتاج إلي صبر وجهاد
* إبراز مكانة العقل
إن نور
الوحي القرءاني والتشريعي الرباني لا يطمس نور العقل أبدا بل يباركه ويزكيه
ويقويه بل ويعطي للعقل قدرا عجيبا فلقد جعل التشريع القرءاني العقل مناط
التكليف ، وقد زكي الله العقل في القرءان قال تعالي ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ ) ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) ( لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
ما معني أن العقل مناط التكليف ؟؟؟
يعني إذا فقد إنسان عقله سقط عنه التكليف
لكن ننتبه أن للعقل دور كبير نعم لكن في حدوده
فقد قال الله عز وجل عن أعقل أهل الأرض صلي الله عليه وسلم ( وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ
مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) (الشورى:52)
هذا صاحب أكبر وأطهر أرجح عقل عرفته الأرض ومع ذلك لم يهتدي رسول الله صلي
الله عليه وسلم بعقله المجرد إلي هذه الحقائق الكبيرة إلا بعد أن أنزل
الله عليه الوحي ، أي أن العقل وحده دون الوحي لا يهتدي لهذه الحقائق
الكبيرة ، لا تستطيع أن تتعرف بعقلك علي توحيد الألوهية ولا علي الأسماء
والصفات ولا علي الجنة والنار ولا علي ما سبق من الأنبياء والرسل ولا علي
الكرسي ولا علي العرش ، فإياك أن تُحكم العقل علي النقل أو تجعله يتعدي حده
فللعقل مجاله فليُبدع فيه ما شاء ، لكن في نفس الوقت يجب علي العقل أن
يسجد مع الكون كله لله رب العالمين
فمن حكم العقل ضل ، نعم قد يبدع العقل في الجانب المادي لكن إذا نظرنا إلي الجانب الإيماني فالعقل لا يهتدي للحقائق إلا بالوحي
وإذا تحدي العقل الوحي ستراه في وحل ودرك سحيق
روي
أبو نعيم في الحلية عن أبي رجاء العطاردي بسند صحيح قال : كنا نعبد الحجر
من دون الله فإذا وجدنا حجرا أحسن من الأول ألقينا الأول وعبدنا الثاني
فإذا لم نجد حجرا جمعنا كومة من التراب وأتينا بغنم لنا فحلبنا عليها ثم
طفنا بها لنعبدها من دون الله جل وعلا )
سبحان الله فهذا عقل
وهذا عقل آخر يقتل البنت حين ولادتها خشية من العار قال تعالي ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) ( التكوير 8 : 9 )
وهذا عقل
لمرأة
قالت أن الدين ظلم المرأة ولن يهدأ لها بالا حتي تسوي بين الرجل والمرأة في
الميراث ، بل وحتي التوحيد ظلم المرأة لأن كلمة التوحيد لا إله إلا هو
ولماذا لا تكون لا إله إلا هي
سبحان الله هذه عقول
هذا عندما يتدخل العقل في الجانب العقائدي تكون هذه هي النتيجة
علم العليم وعقل العاقل اختلافا
من ذا الذي فيهما قد أحرز الشرفَ
العلم قال أنا أحرزت غايته
والعقل قال أنا الرحمن بي عُرفَ
فأفصح العلم إفصاحا وقال له
بأينا الله في قرءانه اتصفَ
فأيقن العقل أن العلم سيده
فقبل العقل رأس العلم وأنصرف
وقال بن القيم رحمة الله
لا يستقلُ العقل دون هداية بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
كالطرف دون النور ليس بمدرك حتي يراه بكرة وأصيلا
نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فأتخذه دليلا
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا
طرق الهدي محدودة إلا علي من أمَّ هذا الوحي والتنزيلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا فأعلم بأنك ما أردت وصولا
يا طالبا درك الهدي بالعقل دون النقل لن تلقي لذاك دليلا